واحات العولمة

[???? ?????? ?????? ????? ????????] [???? ?????? ?????? ????? ????????]

واحات العولمة

By : Osama Esber أسامة إسبر

"واحات العولمة"، عبارة ملائمة لوصف بعض المدن الخليجية، وتعني أنها مدن عائمة أومعلقة لا تربطها جسور بالهوامش العربيّة، ذلك أنّ الطفرة الحداثية في هذه المدن وُلدت ولادة قيصرية بسبب الثروة النفطية، وليست نابعة من سيطرة مستقلة على الثروات الطبيعية، من السياق أو المحيط وحركيّة الفعل الذاتي الإنتاجي لأبناء المجتمع عبر اندماج في المحيط العربيّ، بقدر ما هي نابعة من اندماج شرائح معيّنة من سكّان هذه "الواحات" في الاقتصاد العالمي، وحصولها على حصص كالسلطة وجزء من الثروة، ومن إصرارها على أن تكون امتداداً للغرب، ولكن وفق منطق الاستثمار والربح، بعيداً عن التوزيع العادل للثروة، وتداول السلطة، والتنمية الاقتصادية الشاملة، بحيث تبدو المؤسسات والناطحات والبنوك وكلّ ما يُشيّد من إنتاج أفراد أكثر مما هو نتاج جماعيّ موظّف ضمن رؤية اقتصادية بعيدة النظر. وهذا المال الذي يبني هنا، يُخرّب هناك، أي هو جزء من لعبة السياسة، ولا يخرج عن منطق المصالح،وأحياناً يُمنح كهبات تُذكّر بهبات السلاطين العرب القدامى.

إن هذا المال الذي يُركّع حتى بعض السياسيين الغربيين، ويحوّلهم إلى مقبّلي أيدي، يصنع ثقافة لا تخدم في النهاية، على المستوى العميق، سوى اللبْرلة في اقتحاماتها التي لا تتوقّف، والفكر التقليدي الذي يُعاد إنتاجه تحت واجهة شفافة من الشكلانية السلطانية التي ترتدي بزةّ غربية فوق العباءة، وإذا ما نَفَدتْ مجلة هنا، أو دار نشر هناك، فإنّ هذا لا يعني أنك حرّ في اختيار توجهاتك الفكرية، بقدر ما يعني أنّه عليك العثور على طريقة للإنتاج الثقافي تحافظ على استمرارية الدعم من خلالها، وبذلك تتحوّل من مبدع أو مفكرّ أو مبتكر ثقافي إلى واجهة ثقافية، أو إلى مخرج ثقافي، يُخرج المجلة بالطريقة التي تحافظ على استمراريتها، ويدير دار النشر بطريقة لا تُغضب الرقابة، وفيّة للمجتمع وموروثاته، ويكتب ويخرج المسلسل وفق المواصفات المطلوبة.

وفي سياق التوظيف الثقافي والإعلامي والسياسي لهذه الأموال يزداد الطلب على الموظفين، وعلى من يمتلكون خبرات إعلامية وترويجية وتسويقية وعلاقات عامة، وعلى مسؤولين ثقافيين وسياسيين وخبراء ووزراء وجنرالات ومعارضين سابقين يتم تحويلهم إلى قنوات معلومات، وآخرين لوضع خطط وبرامج، أو لتوظيفهم ضدّ هذا النظام أو ذاك، فيما مشكلات الواقع العربي الصميميّة مغيّبة، أو منفيّة إلى الربع الخالي للصمت.

وهذه آلية بدأت أولاً في إطار الديكتاتوريات، فكثير من العرب الذين وُظّفوا في السياق الخليجي، وخاصة السياسيين، كانوا في السابق “خبرات” في خدمة الدكتاتور.

استطاعت أموال العائد النفطي أن تتحوّل إلى حاضن للثقافة العربية، حاضن يقبض على الثقافة بذراعين فولاذيين، لا لكي يحرّكها في أفق الإبداع بقدر ما كي يخنقها ويحوّلها إلى بعد وظيفيّ من أبعاد النظام، وهكذا يتم إنتاج وزارات ثقافة البعث في مكاتب فخمة، وفي علاقات سلطانية مدروسة، وفي شكلانية تمويهية.

صارت المجلات والجرائد ودور النشر والمؤسسات الخليجية، هي المنتج للثقافة وللخطاب في العالم العربي، أي المنتج الكمي، وهي قابلة للتوظيف بحكم الحاجة السياسية.

هل يمكن الحديث عن هذا الإنتاج كما لو أنه محصّلة للتجربة المدنية؟ أم أنه طفرة سرعان ما ستنهار حين تتغيّر المعادلة، أي حين يتكشف أن أعمدة الاستقرار قائمة في الفراغ؟ هل هذا المنتج الثقافي مجرد ديكور يموّه الخيمة؟ هل الأبراج العالية هي خيام اسمنتية فحسب؟ أسئلة مشروعة ولا شكّ، ذلك أن هذه الثقافة المُموّلة بعيدة كلّ البعد عن هموم الشارع والمال نفسه الذي ينتجها ينتج ثقافة الجهل والتخلّف في أمكنة أخرى من العالم العربي، ومسارات التمويل معروفة ولا حاجة للحديث عنها.

غير أن اختزال المشهد الخليجيّ بهذه الطريقة مبالغ فيه وظالم، ذلك أن هذه المناطق فيها مواهب عالية المستوى تفرض حضورها على الساحة العربية، فضلاً عن أن قراء العربية ينتظرون بلهفة الكثير من الكتب التي تصدر في دول الخليج العربي، ويتلقفون أعداداً لا تُحصى من المجلات من مختلف الأنواع، غير أن لهفتهم لانتظار مجلات كـ "الآداب" سابقاً، و"شعر" و"مواقف و"الكرمل" و"الناقد" و"الطريق" كانت أكبر، فمجلات كهذه، رغم التمويل البسيط لمعظمها، استطاعت أن تلعب دوراً ثقافياً رائداً وأن تغني حساسية أجيال بأكملها، وصدرت انطلاقاً من رؤية فكرية أو أدبية أو فنية أو سياسية، فهل لعبت مجلة كـ "العربي" أو "دبي الثقافية" مثلاً هذا الدور؟ وهل طبيعة الكتب التي تُنتج في دول الخليج الآن، ترقى فكرياً إلى مستوى الكتب التي كانت تُنتج في بيروت، مثلاً؟ أترك المسألة هنا في صيغة سؤال.

إنّ مجلات قائمة على فكرة اصطياد المشاهير من الكتاب العرب وصناعة البرستيج أكثر مما هي مشغولة بتأسيس ثقافة بديلة أو بطرح رؤية ثقافية أو فنية جديدة، تعكس توجّهاً فنياً أو ثقافياً، لا يمكن أن تُعدّ طليعية. ويمكن قول الأمر نفسه عن كثير من الإصدارات التي يمكن أن تتحدث عن كلّ شيء ما عدا العراقيل التي تقف في وجه النهضة العربية المطلوبة بقوة في هذا العصر الذي يتميّز بصعود قوى إقليمية مجاورة للعرب، وبانهيار الكيانات العربية وتعرّضها الواضح لمشاريع التقسيم، وإذ لم يبق لنا كعرب سوى سلاح الثقافة من أجل بلورة رؤية لمستقبلهم، لا بدّ من أن نكون جذريين في مقارباتنا لهذه القضايا وألا نقف عند حدود الترويج وتكرار الخطاب.

استند النتاج الثقافي الإبداعي في لبنان على الأصوات العابرة للحدود العربية، فولادة مجلة شعر والحركة التي أحدثتها ثم مواقف وقبلهما الآداب وغيرها من المجلات الأخرى وُلدت عبر فاعليّة تقاطع خبرات المبدعين في سوريا ولبنان والعراق والبلدان العربية الأخرى. وكان في كل مجلة مزيج من الأقلام العربية المتنوّعة، ومن بلدان عربية كثيرة، إذا لم يتجل في أسماء المحررين فإنه تجلى في المواد المنشورة.هذه الفورة سرعان ما انتهت وتمخضت الحرب الأهلية في لبنان عن انحسار واضح لدور المجلات الثقافية، ولم تقدر الصفحات الثقافية في الجرائد على سدّ الفراغ.

اصطدمت مجلة "شعر" بجدار اللغة، واصطدمت "الآداب" بجدار التكرار وعدم القدرة على تجديد خطّها، بينما اصطدمت "مواقف" بجدار المنع والرقابة، واصطدمت آخر مجلة لم يصدر منها سوى أربعة أعداد هي "الآخر" بجدار انقطاع التمويل المفاجئ. وانتقلنا من لهفة انتظار المجلات المهمة وتوزيعها على الأكشاك، وحجز عدد في سباق محموم، أو الحرمان من عدد لم تسمح الرقابة بدخوله، إلى غابة متشعبة معقدة، هي غابة الشبكة الاجتماعية بكل تفرعاتها. وانتقلنا من القارئ التقليدي الذي يمسك بين يديه ورقاً يشعر بملمسه، يحاور مسامه كما يحاور عينيه، إلى صفحات الشاشة التي تفرض جلسة غير مريحة، وتمنيات بأن لا تنقطع الكهرباء، أو أن تتقصد الدولة قطع الإنترنت.

صارت منطقة الخليج بيروتاً أخرى، مكاناً لتفاعل وتراكم الخبرات، العربية والأجنبية، فكما كانت بيروت حاضناً للعرب، صارت بلدان الخليج حاضنة لهم، واستطاع المال النفطيّ أن يقلب المعادلة في العالم العربي، مغيّراً في طبيعة التفكير، وفي خطاب الصحافة وتوجهات النشر، واستطاعت الأموال النفطية أن تعيد رسم الخريطة الثقافية والسياسية وطبيعة توجّهها حتى في لبنان، غير أن هذه المسألة معقدة، وبحاجة إلى دراسة مفصّلة لكشف ملابساتها، ذلك أن لبنان بلد مفتوح على شتى أنواع التأثيرات الإقليمية والدولية، ولا شكّ أن المال الموجّه إلى الثقافة والصحافة لعب دوراً واضحاً في المعادلة. غير أن الحكم في النهاية على المُنتج الثقافي. وقد يكون لبنان وغيره، على مستوى المؤسسات الثقافية والإعلامية، امتداداً للمؤسسات الخليجية، ذلك أن الدعم المالي متوفر بكثرة في المشاريع الثقافية اللبنانية.

إن من يدفع ثمن هذا التركز للثروة هم الشباب العرب الذين يحلمون دوماً بالحصول على تمويل حقيقيّ لإطلاق مشاريع مجلات طليعية تعبّر عن أفكارهم وتطلعاتهم وهواجسهم الإبداعية والثقافية، غير أن هذا النمط من النشر لم يعد موجوداً، بل صار من الصعب أن يوجد، وقنوات التمويل كلّها سواء تلك التي تقدمها المنظمات والمراكز الثقافية العالمية والمنظمات غير الربحية وغيرها، هي جزء من ألعاب السياسة والاقتصاد، فبناء سينما مثلاً في جينين بتمويل ألماني، بحجة دعم ثقافة السلام، تكشف عن أنه يهدف للترويج لمنتجات الشركات الألمانية وخبراتها، أكثر مما هو لخدمة سلام غير مطروح في الأساس حتى على أجندة السياسيين الألمانيين، كما بيّنت الكاتبة الألمانية إريت نايدهارد. وأذكر مرة في معرض فرانكفورت للكتاب في ألمانيا أن المؤسسات الداعمة للكتب المترجمة إلى العربية عرضت كتباً للدعم دعائية الطابع بينها كتاب حول تربية القطط في ألمانيا، وكتباً أخرى عن الصناعات الألمانية وغيرها. ولا يشذّ التمويل العربي هنا عن هذه الألعاب، إلا أن معظم شروطه سياسية، مما دفع الشبان العرب إلى اللجوء إلى فضاءات الإنترنت الرحبة كي يعبّروا عن همومهم وتطلعاتهم بعيداً عن القبضة المالية التي تمسك بخناق القنوات الثقافية العربية كلّها من المشرق إلى المغرب.

ولا بدّ من أن نطرح سؤالاً في غاية الأهمية، ألا وهو أنه بعد أن تركّز المال في أمكنة معيّنة، هل تحقق المنشورات الصادرة عن هذا التركّز تطلعات المتعطّشين إلى الفكر النقدي والأدب الإبداعي الحقيقي؟ أم أن المسألة أعيد تصنيعها كي تخلق ثقافة مساحيق، ثقافة تزيّن الوضع العربي السائد وتموّهه وتسدل عليه ستائر الجهل، بدلاً من أن تفككه؟ أم أنّ المجلات ودور النشر ومؤسسات الأبحاث الجديدة، تحاول، على غرار بعض المؤسسات الغربية، خلق جوّ منفصل عن الواقع العربي، جوّ يتحدث عن صناعة الثقافة والكتابة في المختبرات، بينما لا يقترب من البنية العقلية السائدة الكامنة في جوهر كلّ هذا؟

إن الثقافة التي تُنتج الآن، هي ثقافة ترويج أكثر مما هي ثقافة تنوير، ذلك أن المال الموظّف ثقافياً في العالم العربي عاجز عن إنتاج كتب تحليلية ونقدية قائمة على البحث الميدانيّ، كتب تتناول الإشكاليات العميقة للبلدان العربية، وتخترق بنية الوعي المتوارثة، والتي صارت خلفية ذهنية لنا نحن العرب في عصر التحولات الكبرى. وقد استطاعت هذه البنية الذهنية أن تنتشر في فضاء الإعلام الاجتماعي بعد أن وجدت طريقة سهلة للانتشار. وكونها منتصرة على أرض الواقع، وكونه لا يوجد طرف آخر يصارعها في المجال العام الإلكتروني، وذلك بسبب الرقابة الممنهجة التي دمّرت الثقافة العربية، وحصرها في حيّز العبوديّة المالية، أو في مدن معيّنة فقدت دورها، فإنّ انتصارها الإلكتروني يمثل هزيمة كبرى للثقافة البديلة التي لا تقبل بأقل من تغيير البنية الذهنية والاقتصادية والسياسية وتفرعاتها جذرياً، من أجل تأسيس عالم عربي قائم على التعددية والحرية والكرامة.

برزت المجلات والجرائد ومؤسسات النشر في دول الخليج، واستجلبت الخبرات من كلّ من سوريا ولبنان والعراق وأمكنة أخرى ولا بأس في هذا إذا كان الهدف هو تعميق التفاعل الثقافي والأدبيّ العربي، ولكن ما يُلاحظ على دور النشر بعامة، هو تبنيها للإنتاج النشري التجاري، فمعظم الكتب التي تُنشر هي كتب للاستهلاك السريع، ولا تخلق أية تأثيرات ثقافية قد تحدث تنويراً أو تحوّلاً في الوعي، أما بالنسبة لمشاريع ترجمة ما يُكتب بالعربية إلى اللغات الأخرى نلاحظ التجاهل التام للمنتج الإبداعي العربي الحقيقي وإغفال التراث الذي عمره أكثر من ألفي سنة، والتركيز على كتب الهدف منها التسويق أكثر من تقديم ما هو قيّم للقراء.

هكذا تندرج صناعة النشر في ألعاب السوق، وتعمل على تشكيل ذوق استهلاكي يتابع الجديد محلياً وفي العالم ولكن بدون طرح أسئلة حقيقية على هذا المنتج، أي أنّ سلطة النص لا تكمن فيه بقدر ما تكمن في الدعاية وآليات التسويق، مما يفرغ النص من فاعليته الإبداعية التنويرية ويحوّله إلى فاعلية استهلاكية.
لا يعني هذا إغفال الكتب المهمة التي تصدر بين فينة وأخرى، وخاصة في المجال الأدبي، إلا أنّ ما هناك حاجة ماسة إليه لا نراه على قوائم دور النشر، والتي تُنتج المقبول عربيّاً، أي الذي لا يخلّ بالقواعد الصارمة التي تعكس غياب الحريات بكافة أشكالها.

يتحدث كثير من الناشرين العرب عن بيع كتب من تحت الطاولة في كافة المعارض العربية، وعن دوريات الرقباء التي تجوب المعارض، غير أن الشيء اللافت للنظر هو أنّ القراءة التي تجمع بين متعة التسلية ومتعة الاطلاع وتعميق المعرفة وتوسيع آفاق الوعي ورؤية الأمور بطريقة جديدة، يُراد لها أن تقتصر، وفقاً لطبيعة مُنتج دور النشر، على أن تكون للتسلية، أو للتلقين، وهذا يشكك في الأهمية التي تُضفى على مشاريع من هذا النوع.

ليست المسألة إن كان لبنان أو القاهرة أو دمشق أو دبي هم المركز والمتبقون هم الأطراف. إن الثقافة الحقيقية تتجاوز تقسيمات شكلية سطحية كهذه إذا وضعنا اللغة المشتركة والثقافة المشتركة للعرب في عين الاعتبار، فما هو مهمّ في النهاية، هو إنتاج معرفي يلبّي الحاجة إلى التعليم والتنوير ويخدم الأجيال العربية الطالعة التي هي بحاجة إلى تضافر جهود الجميع، من أجل تقديم معرفة نوعية تخدم شرائح العمر كلّها، عبر التركيز على المكتبة المدرسية ومكتبة الحارة والمكتبة المنزلية، وملء هذه المكتبات بالكتب التنويرية التي تحلل واقعنا العربي وتكشف عن مآزقة وأمراضه من أجل خلق وعي حقيقي قادر على تغييره وفق رؤية متكاملة هاجسها تقدّم العرب في عصر سيدفعون وجودهم نفسه ثمناً لعدم اللحاق به.

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]